بشرى تاكفراست
أستاذة جامعية –مراكش-المغرب
كلما رغبنا في معالجة إشكالية "الإسلام
و الشعر" تزاحمت في أذهننا أسئلة
عدة منها:
1- ما البعد
الذي تتخذه هذه الإشكالية ؟ هل موقعها في الزمان أو المكان أو الفكر؟. 2- هل المقصود
من هذه الإشكالية جعل الإسلام مكافئا للشعر ومقابلا له؟ إذا كان الجواب
بنعم،
فسنصل إلى معادلة رياضية يتساوى
طرفاها: الإسلام = الشعر. وهو أمر
مرفوض من الأول لاعتبارات سنشرحها فيما بعد. 3- ما
نوعية العلاقة التي جمعت بين الإسلام
والشعر؟ هو سؤال يقودنا إلى سؤال أعمق: ما هو الاهتمام الكبير بالشعر
وتحديد
علاقته بالدين الإسلامي؟ ما الصلة التي جمعت بين ظاهرة محولة (الإسلام)
وشكل من
أشكال الخطاب الأدبي (الشعر)؟.يتطلب الجواب عن هذا السؤال طرح الإشكال في
قالب
أوسع وهو"الشعر العربي القديم بين القوة و الضعف". قد يكون مصدر الاهتمام بهذا
الوجه الفني (
الشعر ) ما كان له من مكانة عند العرب وأثر في حياتهم، وفعالياته في
مجالات
متعددة: الاقتصاد، السياسة، الدين، وقد أثر عن عمر بن الخطاب قوله: " كان
الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصلح منه" (1).
كما حفظ قول عبد الله بن عباس:" الشعر
ديوان العرب" (2) وقد قال ابن سلام في تحديد مكانة الشعر في
حياة العرب:" وكان الشعر في الجاهلية عند العرب ديوان علمهم ومنتهى
حكمهم،
به يأخذون و إليه يصيرون"(3)، بجانب هذه
المكانة فإن الشعر "استطاع
أن يؤرخ الأحداث، ويدقق في أجزائها، ويحدد ملامح كثيرة لم يقف عندها
المؤرخون"
(4)،
ويقول المؤلف في موضوع آخر من كتابه"
وقد دللت الأحداث على أن الشعر كان وثيقة من الوثائق المعتمدة في التدليل
على
سلامة الأحداث ولم تكن عادة الاستشهاد به حالة طارئة انفردت بها كتب
معينة، أو
عرف بها مؤلف أو اقتصرت على فن ادبي وحده وإنما كانت الكتب على اختلاف
موضوعاتها
وفنونها تضم شعرا كثيرا، وتستشهد بأبيات العصور مختلفة، ولو حاولنا
استخراج ما
تفرق منها وتوزع في أبوابها وتناثر في صفحاتها من شعر لجمعنا شعرا كثيرا،
وأضفنا
إلى تراثنا الشعري تراثا جديدا"(5). ويطول
الحديث إذا نحن حاولنا تتبع ما قيل عن
الشعر العربي القديم، ودوره في وجود العرب، ويمكن للمهتم أن يعود إلى عدد
لا
يحصى من المصادر والمراجع التي تعرضت لهذه المرحلة من عمر الأمة العربية
ليتبين
قيمة الشعر وأثره وتأثيره في البيئة العربية القديمة، ومنها: 1- البيان و
التبيين للجاحظ. 2- الحيوان للجاحظ.
3- الشعر
والشعراء لابن قتيبة. 4- المقدمة
لابن خلدون. 5- تاريخ الشعر
العربي محمد نجيب البهبيني. 6- مصادر الشعر
الجاهلي ، ناصر الدين الأسد. 7- الشعر الجاهلي ، محمد
النويهي.
ونقتصر
في هذا الصدد على بسط إشكالية
"الإسلام والشعر" عند القدماء ثم المحدثين والمعاصرين وأخيرا
المستشرقين. أولا:
إشكالية ضعف الشعر عند القدماء: مع
القدماء من الباحثين نتصل بجانبنا
المفتقد الذي قدمه الآخر لنا بالطريقة التي أرضته، وفي عملية البحث عن
نصف
هويتنا والمرتبطة بجانبين أساسيين من مقوماتنا: الأدب / الدين، سنقتصر
على بعض
النصوص ونحاول قراءتها من جديد لفهمها الفهم المقبول الذي نعتقد أن
القدماء
أرادوه. وسنرتب القدامى الذين سنقرأ نصوصهم ترتيبا تاريخيا: 1- الأصمعي: لقد اعتمد عدد كبير من
الباحثين على نص
للأصمعي ليبرهنوا على ضعف الشعر في مرحلة الدعوة الإسلامية، وذلك حين
يقول:" طريق الشعر إذا أدخلته في باب الخير لاَنَ، ألا ترى أن حسان بن
ثابت
كان على الجاهلية والإسلام، فلما دخل شعره في باب الخير من مراثي النبي
صلى الله
عليه وسلم وحمزة وجعفر رضوان الله عليهما وغيرهم، لان شعره"(6). وواضح أن الذين استندوا إلى
هذا النص
ليستدلوا على ضعف الشعر الإسلامي باتكائهم على أخذ دعائم اللغة الكبار في
عصره،
هؤلاء شرحوا كلمة "لان"" بضعف" وعندهم أن الموافق اللغوي
للفظة اللين هو: الضعف، أما معاجم اللغة فتضم في مقابل اللين الخشونة(7)، ولأن الشيء "يلين"
"لينا"و "ليانا" و"تلين" لا يكون ضده اللغوي
الصحيح إلا "خشن"، وأقرب لفظ إلى "لان" أيضا هو"
نعم" فاللين إذن لا يعني "الضعف" ولكن يعني"النعومة "و
"الرقة" و"السهولة"، وفي الحديث "يتلون كتاب الله
لينا" أي سهلا على ألسنتهم. واستنادا إلى ماسبق نرى أن نص
الأصمعي لا يتخذ
ضعف الشعر الإسلامي مدارا له، ولذلك فهو لا يعتمد كشاهد إثبات على ضعف
الشعر
وإلا اهتزت معايير الحكم على القيم والمثل، لأن شعر حسان كان قد لان بسبب
تغيير
مضامين شعره وتحويلها من مجال الشر إلى دائرة الخير، فإذا كان الخير وما
شابهه
من جمال وعدل وإحسان ومروءة وحب وتضحية وغيرها مما لا يمكن حصره، ويدخل
جميعه في
باب الخير، وهي سببا أساسا في ضعف الشعر فإننا يمكن أن نتقبل الطرح
السابق، الذي
يجعل تحول الشعر إلى عالم الخير مؤذيا له، ومعروف تاريخيا أن الشر يذكي
جذوة
الشعر، فقصائد الحماسة العربية كثيرة، و التي تشكل رصيدا مهما من مدونة
الشعر
الكبرى قد كان وراءها الحروب الطويلة التي التقت فيها القبائل العربية في
ظل
السيوف، ودفع إليها التناقض بين الشعراء الجاهلين والتهاجي
بينهم،والتفاخر
بالأنساب والأمجاد ، وبإظهار قوة الجماعة التي يتكلم الشاعر باسمها
والإلحاح على
ضعف الآخرين المهجويين بانيا مضامينه على حقائق ، تطبع قوله بالصدق، أو
مستندا
إلى أباطيل وأوهام تجعل إبداعه أكاذيب
وأضاليل، أو مراوحا بينهما، باعتماد الصدق في جانب من القول والوهم في
جانب آخر
: والخطاب الشعري في ذلك كله لا يخرج عن دائرة الشر المذكي للهيب
الإبداع. ولكن الشعر العربي لم يزدهر
ويرقى جاعلا من
عوامل الشر التي توفرت في الجزيرة العربية في جانب من علاقات ساكينها-
الدافع
الوحيد للخلق الفني فنحن نعلم أن حياة الناس في هذه المنطقة لم تعرف الشر
وحده
كما يلح على ذلك بعضهم، بل عرفت كذلك أنواع العلاقات الإنسانية الشفافة
التي
تنطوي تحت كلمة الخير، ومن ذلك: الإحساس المرهف الرقيق بالجمال في
الطبيعة
المتحركة، والساكنة، والاندماج الرائع الذي يؤلف بين الإنسان والحيوان في
مشاعر
راقية، تصل الناطق بالأعجم في صور من الحب، وحالات من العطف والحنان تثير
العجب
والحيرة والاستغراب، وتطبع نفس العربي بالنبل والسحر والجمال بجانب ما
يصل
الإنسان بأخيه من حب، وتفاهم فردي وجماعي، وكرم راسخ اشتهر به العربي
غنيا كان
أو فقيرا، وتضحية كبيرة... يعبر عن كله أو بعضه القصائد العديدة في حب
المرأة
كشكل خارجي أو تركيب خارجي نفسي داخلي، ووصف للحيوان و مظاهر الطبيعة في
تلوينها
المتباين، باختلاف الفصول وتعدد المراحل الزمنية، بخصوصيتها الجمالية
المتغيرة،
ومدح المستحقين من أهل العطاء، والإشادة بمعاهدات الصلح والتنويه
بأصحابها، وذرف
الدمع الصادق عن الحبيب الراحل، و الزوج المودع، والابن الفقيد... وهناك شيء آخر في نص الأصمعي،
ينبغي أن
لايغيب عنا وذلك أن الأصمعي عالم مهتم باللغة، واهتمامه منصب – أولا-
كعلماء
اللغة في عصره على البحث عما عرف بين اللغويين بالغريب وقد كان هؤلاء
يقصدون
البادية العربية في العراق وغيره ومنهم من كان يرحل إلى أبعد نقطة فيها
يتصل
بأكثر الناس بعدا عن الحضارة من البداة الذين لم يخالط لسانهم كلام من
الدخيل
ولم يغير لغتهم الأصيلة هذا الجديد الذي طرأ على اللسان العربي، لقد كان
الأصمعي
يبحث عن حوشي الكلام وغريبه، ويجده في القصيد القوي العنيف الحسن في
معماره
وتركيبه، ويجد ضالته في القصائد البدوية التي لم تتصل بطراوة المدينة، و
لم تعرف
لين الحضارة وسهولتها، وظلت مرتبطة بالبيئة الأولى للشعر العربي في
البادية
العربية، لقد وجد الأصمعي هذا الغريب، وهذا الحسن وهذا الحوشي في لغة
حسان بن
ثابت، حين اختار نوعية الألفاظ التي يتعامل معها ويوظفها لقضيته وقد
استبد خطابه
في الجاهلية على هذا الجانب الوعر الصعب الذي يختلف عن سماحة الإسلام
ورقته
ولينه. فلما مست العقيدة النبيلة قلب الشاعر فرضت عليه تغيير خطابه، لذلك
رسم
مجالا مكانيا جديدا داخل المعجم العربي مختلف عن مجاله الأول، وهكذا رقت
كلمته
بعد قوة ولانت بعد خشونة،وحلت بعد مرارة، وذلك حين ارتوت من نبع اللين
والرقة
والحلاوة والعذوبة. ولهذا يسير الأصمعي في رأينا
إلى منعطف مهم
وخطير في طريق الشعر العربي حدث في لحظة من لحظات تحوله العظيم، مكسرا
البنيتين
السطحية والعميقة طارحا بديلين عنهما، يسايران روح الإسلام الكريم في
سماحته
وجماله وجلاله. ثانيا: ابن سلام الجمحي:
و ابن سلام ممن اعتمدت
نصوصهم القديمة
لإثبات ضعف الشعر في عهدالدعوة الإسلامية، ونزول مستواه وذلك لانصراف
الناس عنه
واهتمامهم بما جاء به الإسلام، انصرافا أضر بهذا الفن ضررا كبيرا،
ولنتأمل النص
الذي يعتبر عمدة في هذا الشأن، يقول ابن سلام: "فجاء الإسلام فتشاغلت عنه
العرب وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم، ولَهَت عن الشعر وروايته، فلما
كثر
الإسلام، جاءت الفتوح واطمأنت العرب بالأنصار وراجعوا رواية الشعر، فلم
يؤولوا
إلى ديوان مدون ولا كتاب مكتوب"(8)، ولا نعتقد أن
قارئا أو محللا منصفا سيفهم
من هذا النص أن سلام يدين الإسلام، ويحمله مسؤولية نزول مستوى الشعر، أو
انحدار
مكانته أو ضعفه، فهو يقتصر على تقرير حقائق تاريخية هي انشغال العرب في
العصرين:
النبوي والراشدي عن الشعر وروايته بالجهاد والفتوح وعدم تمكنه من التدوين
واكتفائهم بحفظ بعض الأشعار
(9)، فإذا كان
الإسلام قد أثر في الشعر – وذلك
ما حدث فعلا – فإن هذا التأثير كان إيجابيا، لأنه شغل العرب عن فرقتهم
وتشتتهم
وتمزقهم، باقتراح
نظرية الوحدة الكبرى لكل القباءل واعتماد
المساواة بين السادة المالكين والعبيد الذين لا ملكية لهم، ثم حمل هذا
الذين إلى
مختلف بقاع الدنيا، لأن الله لم يخص به قومادون قوم ولا أرضا دون أرض،
فهو دين
الله يهبه للناس جميعا، وينشره من فهمه ووعاه، ولذلك فإن الإسلام قد شغل
العرب
عن جانب في حياتهم الفنية والاجتماعية، بهذه الشحنة المستمدة من دين
الوحدة و
العدالة والمساواة.
فابن سلام لا يرى أن الإسلام
سعى إلى هدم
بناء فني مكتمل عند العرب كما قد يفهم، لتبرير مشروعية الخصومة والتوثر
بين
الدين والفن في ظل الدعوة الإسلامية. لقد كانت المرحلة خاصة
بالبناء و التشييد
وهي عادة فترة يصمت فيها الشعراء إلا قليلا لأن الفن لن يتغنى بإنجاز لم
يكتمل
بعد، وإلا سقط في البهتان والافتراء، ولذلك لم يصل الخطاب الأدبي إلى
تصوير عظمة
الإسلام وقدرته وبراعته في مراحل متأخرة من حياة المسلمين قد لا يكون
ظهورها
منطقيا إلا في أواخر القرن الأول الهجري وبداية القرن الثاني وما تلاه،
والنص
بعد ذلك يخوض في أمر آخر هو حال الشعر في مرحلة الجمع
والتدوين، وهي مرحلة لم يجد فيها
الجامعون والمدونون إلا القليل من شعر الشعراء بعد ضياع جانب كبير منه
نتيجة موت
المنتجين وكذا رواة شعرهم، أو استشهادهم في الفتوح و الغزوات، وهو أمر
يحيل إلى
قضية أخرى هي الكتابة والتدوين، وحظ الأدب العربي من ذلك، الذي اعتمد على
الرواية الشفهية التي تعرض الإنتاج الشعري إلىالضياع بضياع ذاكرته الأولى
وهي
المبدع، وضياع ذاكرته الثانية وهي الراوي أو الحافظ فإذا جاءت الذاكرة
الثالثة
والأخيرة وهي التي تعطي للإبداع حقه المشروع في البقاء والاستمرار وذلك
بتدوينه
وتوثيقه، لم يجد المهتمون إلا أقل الشعر. وهذا قول يخالف ابن سلام فيه
عدد من
الباحثين ، ولا مجال للتصدي لهذه الإشكالية ، لأنها تقوم وحدها كبحث خاص ،
له
أهميته ويحتاج إلى عناية خاصة، من الغبن لها جعلها إشكالية ثانوية بهامش
إشكالية
أساسية. ثالثا: ابن خلدون:
لعل ابن خلدون أفضل من طرح
عناصر الإشكالية
بشكل دقيق يشيد بوعي الرجل وعيا تاما بالقضية، وإحاطته بظروفها إحاطة
فاهم مدرك،
ونرجع إلى أحد نصوصه المختصرة التي تشير إلى وعيه بحقيقة ما حدث للإسلام
والشعر
، والعلاقة بينهما ، وهذا الطرح المتميز لابن خلدون يأتيه من أمور: 1- استعداده
للفهم والتحليل والتأويل. 2- موقعه الزماني الذي يتحدث
منه، ويفكر فيه، وهو
موقع مفيد لتأخيره عن اجتهاد وقراءة من سبقه ممن ذكرت. 3- إفادة ابن خلدون من
المتقدمين عليه ومنهم
الأصمعي وابن سلام الجمحي وتوسيع قطر دائرة منظورهم. والنص الذي ننظر فيه لابن خلدون
وهو..."ثم انصرف العرب عن ذلك (يقصد اهتمام العرب بالشعر واحتفالهم به)
أول
الإسلام بما شغلهم من أمر الدين والنبوة و الوحي وما أدهشهم من أسلوب
القرآن و
نظمه، فأخرسوا عن ذلك وسكتوا عن الخوض في النظم والنثر زمانا، ثم استقر
ذلك
وأونس الرشد من الملة، ولم ينزل الوحي في تحريم الشعر وحظره، وسمعه
النبي(ص)
وأتاب عليه، فرجعوا حينئذ إلى ديدنهم منه
" (10) النص
يقرر أمرين مهمين هما: 1- انصراف العرب
عن الشعر وقلة اهتمامهم به، لانشغالهم بأمر الدين واندهاشهم بأسلوب
القرآن وحسن
صياغته ورائع معماره. 2- عودة العرب إلى ما كانوا عليه
من احتفاء
بالشعر حين استقرت الأرض تحت اقدام الدعوة الإسلامية وحين وجدوا أن الله
لم
يحرمه في كتابه ولم يمنعه، وبعد أن استمع إليه الرسول (ص) وأجاز عليه. ونلاحظ
بعد ذلك أن النص يحدد الفترة الزمنية
التي توقف فيها العرب عن الاهتمام بالشعر، فابن خلدون يؤكد أن ذلك وقع
"أول
الإسلام" أي الفترة الأولى التي ظهرت فيها الدعوة الإسلامية، وهو الوقت
الذي حدثت فيه الصدمة الكبرى بين الرسول (ص) وقريش وذلك حين حدثهم بلغة
سماوية،
وردوا عليه بلغة أرضية وهنا حدث أمر جديد فقد حاول المحدود اسيعاب
المطلق، ففي
لحظة الصدمة حاول العرب بانتمائهم إلى الزمان و المكان في محدوديتهما
الفهم
والإحاطة بمدركات غيبية مدارها هو المطلق، لا يفهمها إلا من وعي حقيقة ما
يجري،
وأدرك واقع ما يقع، ولم يكن العقل قادرا على
الفهم والشرح والتأويل
في
أبعادها الصحيحة السليمة، وهكذا حدثت الرجة وحصل الاندهاش وتم الانبهار،
وتخلف
الوعي عن مسايرة ما يحدث فبالأحرى تطويقه والإمساك به، وكان
لابد من زمن ينصرم ليفهم الناس أنهم
أمام عوالم تنتمي إلى المطلق الذي لا حدود له في مجالات ثلاثة هي:أ-
الدين، ب-
النبوة. ج- الوحي.
وقد
تداخلت هذه المجالات تداخلا كبيرا، واتصلت
اتصالات وثيقا فلا يفهم أحدها إلا بتصور كامل للمجالين الآخرين واقتناع
بهما.
وهذه
الحالة من الاندهاش والانبهار التي
أغابت العقل تحت ضباب كثيف ستحصر بعد ذلك حين يأنس الناس بالدين الجديد،
وتزول
رعشة هذه الهزة العنيفة التي أصابتهم... وحين ترتفع دهشة العرب، وتغيب
آثار
صدمتهم الأولى يعودون إلى علاقتهم بالشعر التي تعثرت لفترة محدودة، هي
فترة
الأثر الحاصل من اللقاء بين المحدود واللامحدود، خصوصا وهم يرون أن
القرآن لم
يعاد الشعر ولم يعلن عليه الحرب إلا في مضمونه الفاسد، في حين أعلن الحب
للشعر
في مضمونه الطيب العالم، وقد سمع الرسول(ص) الشعر في بيت الله وقام إلى
من احسن
القول من الشعراء مجازيا مكافئا. 2
-
إشكالية ضعف الشعر عند المحدثين والمعاصرين: عندما
ننظر بعمق في آراء الباحثين و
المعاصرين حول إشكالية الإسلام و الشعر،نجد أننا نستطيع تصنيفها إلى فئات
ثلاث:
الفئة(أ) والفئة (ب) والفئة (ج).
الفئة
(أ): ترى هذه الفئة أن الشعر
ضعف وانحدر عن مستواه الفني الرفيع وذلك لأثر الإسلام وموقف الرسول(ص)
والمسلمين
من الشعر، ومحاربتهم له حرب إبادة واستنزاف كزكي مبارك ومن حذا حذوه...
وأرجع د.
نجيب محمد البهبيتي سبب ذلك إلى دورة الشعر كفن في مداره الخاص وزمنه
الذاتي،
وهو زمن التطور الفني الذي لا يخضع للزمن العادي والمتداول بين الناس
وبذلك يظهر
أن الاختلاف اختلاف سلب والتناقض تناقض تكسير وتدبير.
نصت
الفئة (أ) أن الشعر في مرحلة الدعوة أصابه
ضعف ووهن فرأى الأستاذ عبد الله عفيفي في كتابه "الأدب العربي في صدر
الإسلام " أن الشعر في هذه الحقبة لم يتأثر بأدب الفترة السابقة ولم يؤثر
في أدب المرحلة الزمنية اللاحقة. ذلك أن الشعر في العصر النبوي وعصر
الخلفاء
الراشدين لم يكن له من أثر في تاريخ الشعر إلا أنه وصل بين عصرين عظيمين
من
عصوره هما: العصر الجاهلي والعصر الأموي.
ولم
يشك أحمد حسن الزيات في أن الشعر ظل على
عهد الرسول (ص) جاهليا فلما خضعت قريش وسائر العرب للدين الجديد خرست
الألسنة
اللاذعة وفر الشعر الجاهلي ثانية إلى البادية وانصرف المسلمون إلى حفظ
القرآن
ورواية الحديث، وجهاد الشرك، فخفت صوت الشعر لقلة الدواعي إليه"
(11) أما حال الشعر بعد النبي (ص) فأقل شأنا وأحط
مكانة لذهاب المعارضة وتشدد الخلفاء في تأديب الشعراء،وانصراف همم العرب
إلى
الفتوح"(12). أما الدكتور محمد نجيب البهبيتي فقد أكد
على أن نظرية ضعف الشعر في الإسلام نظرية صحيحة ثابتة، وراح يبحث عن
أسباب ذلك
فحددها في:
1- وقع القرآن
الكريم في اسماع ونفوس العرب – وهو قوم ذووا ذوق وأصحاب بلاغة وفصاحة
وإعجابهم
وذهولهم أمام كتاب الله على المستويين: أ-
المستوى الجمالي في معماريته الشكلية وبنائه
الفاتن المحكم وحلاوة إيقاعه. ب-مستوى
التشريع والتقنين وسن قواعد متينة نظريا لإقامة مجتمع متكامل. 2- تعريض
المشركين بالرسول(ص) ووصفه بالشاعر، وتنزيه القرآن للرسول(ص) عن أن يكون
شاعرا،
مما جعل الشعر وثنا من موروث وثني، وتقليدا جاهليا ينبغي أن يزول بزوال
مبرراته
الاجتماعية والفكرية. 3- على أن أهم ما توصل إليه محمد
نجيب البهبيتي
في الدلالة على ضعف الشعر هو تطور الفنون وشموخها، ثم انحدارها وغروبها،
تحت
المراقبة الصارمة للزمن الفني، الذي لا يخضع للزمن المنطقي، أو الزمن
العادي
المتداول، أوالوقت المحسوب المقنن فكريا ورياضيا، وقد وجد الباحث أن
الشعر لم
يلحقه الضعف بسبب الإسلام، أوفي ظله، بل أن الشيخوخة الفنية قد أصابته في
العهد
السابق للإسلام، بعد أن بلغ قمة نضجه ورقيه وسموه."(13). ومعنى
ذلك أن القصية غير مطروحة للنقاش ، وأن
إشكالية الإسلام والشعر لم توجد أبدا، ولعل هذا الباحث لا يتوقف طويلا
عندها ،
ولا يفرد لها صفحات كثيرة من بحثه ما
دام قد انتهى فيها إلى هذه النهاية. أما
الأستاذ يحيى الجبوري فإنه نص على أن
دواعي الجاهلية هي الباعث الأساس والقوي على قول الشعر، لذلك فقد ازهر
بازدهار
الحوافز، وتراجع عن مكانته وضعف بغياب هذه البواعث، أوضعفها أو قلة
تأثيرها، فقد
كان "الشعر قبل الإسلام يستمد عواطفه وقيمه من تلك المثل والنظم، وقد
أبطل
الإسلام دواعي ونزعات الجاهلية، فصار على الشعر أن يستمد معانيه وأغراضه
من
الظرف الجديد، فوقف حينا، وخاب في أكثر الأحايين، وقد كان لتلك الخيبة
أثرها في
خمول الشعر وضعفه إذا ما قيس بشعر العصر الجاهلي."
(14) الفئة
(ب): وجدت هذه الجماعة أن الشعر
في عهد الدعوة لم يصبه أي ضعف أو انحدار في المستوى بل أنهم رأوا أن
الشعر قد
تهيأت له أسباب القوة والغزارة مما لم يتح مثله في عصور أخرى، وقد رأى
الدكتور
زكي مبارك أن اعتبار الشعر كان في خمول في زمن البعثة والخلافة الراشدة
خرافة،
مستندا إلى ندرة ما روي من شعر ذلك العهد، وقلة ماعرف فيه من شعراء ووجد
أنه قد
حان الوقت لمحو هذه الخرافة، وأكد الباحث
أن الشعر كان في زمن البعثة قويا وغزيرا، وكان شعراء في كثرة وعزة. و
الدكتور
زكي مبارك لا يشك في أنه كان للمشركين من العرب شعراء فحول يردون على
شعراء
الرسول(ص) يحمون معتقدات قومهم ورموزهم الدينية القديمة ، ويرى أيضا أن
اليهود
كان لهم شعراء يدودون عن عقيدتهم الموسوية ، ويحاولون بقوتهم الفنية كلها
حماية
دينهم من هذا المد الزاخر الذي ينطلق من مكة، ويتدفق بقوة عظيمة مقبلا
على
الجزيرة العربية، يروم تغطيتها واحتواءها. وزكي
مبارك يعتقد أن الرسول(ص) سعى إلى
القضاء قضاء تاما على من عارضه من شعراء قريش وشعراء اليهود ، وكان من
نتائج هذا
العمل أن ضاع وانقرض ما تركه حزب المعارضة لذلك العهد من الآثار الأدبية
والفنية.
وزكي
مبارك يطرح قضية جهوية حين يتحدث عن
العلاقة بين الإسلام والشعر،وهي
قضية النص الغائب، التي
تعتبر
إشكالية كبرى في تاريخ النص العربي خلال كل العصور السياسية، التي تطرح
في غالب
الأحوال نصا مقبولا مقروءا،ونصا مرفوضا،وقع حجزه ، وتم تغييه فلم يصل
إلينا ،
ولو توفرت إمكانية عمل إحصائي علمي دقيق ،فربما وجدنا أن هذا
النص
المغيب
نص الظل تعلو نسبته علوا كبيرا
، ويسجل ارتفاعا واضحا في الرسم البياني الدال على التواتر العددي
والقيمة
الفنية والإنسانية ،ولكن الأمر يختلف في رأينا، إذ تحدثنا عن النص
المحجوب في
مرحلة الدعوة الإسلامية،ذلك أن عددا من الشعراء المشركين الذين عارضوا
الرسول
(ص) معارضة شديدة وقاوموه بأيديهم وشعورهم ومن أمثال عبد الله بن الزبعري
وضرار
بن الخطاب وأبي سفيان بن الحارث هؤلاء وغيرهم عندما اعتنقوا الإسلام يوم
فتح مكة
في السنة الثامنة للهجرة ، ندموا على ما قالوه من هجاء وتعريض بالمؤمنين
ونيل من
أعراض المسلمين ونبيهم، وهاهي أشعارهم في أهل الإسلام لا تزال تملأ
الأسماع
والأفواه هازئة بدين الله محتقرة للرسول(ص) ساخرة من متبعيه ، لذا سعى
هؤلاء
الشعراء إلى محو هذه الصفحة والعمل ما وسعهم لينسوا أشعارهم السابقة
ولينساها
الناس بدورهم.
وهكذا
عمل الشعراء أنفسهم على إغابة جزء مهم
من إنتاجهم الذي يساير ويوافق كفرهم بالأمس، ويتعارض مع وضعهم الراهن
وهذا العمل
يجعل " النص الغائب" في هذه الحقبة نصا غائبا بالفعل، فعل
المبدعين أنفسهم المرتبط بإرادتهم ، أما
النص المسكوت عنه أو"نص الظل"
في عصور أدبية أخرى فإنه كان يغيب بدون
إرادة أصحابه وهو غياب بالقوة ،بالعنف ، بالقهر، دون اختيار من الشاعر،
أو
موافقة منه، لهذا ينبغي إدراك هذا الفرق حين نتحدث عن الخطاب الشعري ،
وما لم
يصلنا منه في مرحلة الدعوة الإسلامية.
وقد
سار على طريق زكي مبارك الأستاذ شوقي
ضيف، فرأى أن الشعر في عهد الدعوة كان قويا، وأنه لم يتوقف في مسيرة
نهضته
وتألقه، ولم يتخلف في هذا العصر عن العصر الذي سبق، وهو أمر طبيعي – في
رأي شوقي
ضيف- لأن الشعراء عاشوا من قبله في الجاهلية وعبروا بالشعر عن مكابداتهم
وعواطفهم المتباينة، وتجاربهم "فلما أتم الله عليهم نعمة الإسلام ظلوا
يصطنعونه وينظمونه"
(15) أما
النصوص الشعرية التي تشهد على غنى هذه
الفترة فهي عند شوقي ضيف متوفرة، وتدل كثرتها في عصر صدر الإسلام على
ثراء في
مجال الخلق الشعري ، وهذه الكثرة تنقض الفكرة الشائعة في أوساط الباحثين
من عرب
ومستشرقين ، حين يزعمون أن الإسلام انحصر عن أثر ضئيل في أشعار
المخضرمين"
ولعنا لا نبالغ إذا قلنا إن الإسلام أذكى جذوته [ يقصد الشعر] و أشعلها
إشعالا ،
فإن أحداثه حلت من عقد الألسنة وأنطقت بالشعر كثيرين لم يكونوا ينطقونه."
(16) إن
الأدب الإسلامي في رأي الفئة (ب) ادب قائم
بنفسه يعلن ويحقق مشروعية وجوده دون اعتماد على أدب مرحلة سابقة، أو
استناد
إليه، فهو غير عاجز يحتاج إلى من يسنده من موروث سابق، ومكتمل تام
بمؤهلاته
الذاتية غير مضطر إلى أن يلحقه الملحقون بأدب فترة آتية بعده تمده ببقية
وجهه
الناقص أو تعيد إليه ملامحه المبثورة وتجمل سماته المشوهة، وفي ذلك يقول
الدكتور
سامي مكي العافي:" اعتاد معظم دارسي ومؤرخي الأدب العربي أن يلحقوا الأدب
الإسلامي بالأدب الأموي، أو أن يجعلوه تتمة للأدب الجاهلي، أو خصه
بوريقات
معدودة فقط، بدعوى أن ملامحه لم تتضح بعد ومميزاته لم تتبلور"
(17) وهو
يرجع سبب ذلك إلى أبحاث المستشرقين ومن
سار في طريقهم من الباحثين العرب المحدثين فيما بذلوه من جهود، وما
أشاعوه عن
ضآلة أثر الإسلام في الأدب العربي في هذه المرحلة، وهو وهم ينفيه ما وصل
إلينا
من شعر ونثر.
الفئة(ج): تجمع بين رأيي
الفئتين (أ)و(ب) فيتكامل
عندها وجها القضية، ويصبح الشعر متضمنا للسلب والإيجاب في التجربة الفنية
للشاعر
الواحد أو لمجموع الشعراء المخضرمين وذلك حين عكس الفن الشعري في عهد
الدعوة
النبوية القوة والضعف.وقد فصلت هذه الفئة بين الحالين، بأن أعادت القوة
إلى
العهد السابق، لأنه مكتمل فنيا، ناضج في تجربته الطويلة التي أفرزتها
دربة
القرون العديدة، فكل ما اتصل بالقديم ( ما قبل الإسلام) فهو قوي جيد،
لأنه يستند
إلى موروث فني راسخ، متمكن يستقر على أضية تابثة لا تهز ولا تتأرجح أما
ما ارتبط
بالإسلام كتجربة فنية فهو جديد يحتاج إلى زمن الإحساس بالظاهرة المحولة،
ثم
الوعي بها، وتغير القوالب لاحتواء المضامين المستجدة التي لم تألفها
الأشكال
الفنية الجاهزة، فلذلك وجدت هذه الطائفة من الباحثين اختلافا من الناحية
الفنية
في شعر الشعراء المخضرمين، تنيجة اختلاف تأثير الإسلام فيهم فهذا أحمد
الشايب
يقول: " وأهم ما يلاحظ من الناحية الفنية العامة هو اختلاف تأثير الإسلام
في أساليب الشعراء المخضرمين والذين ظهر عليهم وهم يقولون الشعر"
(18).ويأخذ احمد الشايب نماذج من شعراء المرحلة ،
فيرى أن الحطيئة قد احتفظ بشخصيته الجاهلية إلى حد بعيد، وإن تأثر
بالقرآن في
بعض معانيه، واما" لبيد" فقد سكت عن الشعر احتفاء بالقرآن الكريم، وإن
قال شعرا في الإسلام لا يتناسب مع ما قيل عن هجره لقول الشعر هجرا كاملا،
أما
كعب بن زهير بن أبي سلمى ، فقد ظل جاهليا ، ويصور ذلك قصيدته"بانت
سعاد" التي مدح بها الرسول (ص)، والتي لم ينسلخ فيها عن جلده الجاهلي
القديم واحتفظ كعب بن مالك وعبد الله بن رواحة بأسلوبهما،" أما حسان بن
ثابت فكان شعره الجاهلي أقوى من شعره الإسلامي لتعبير البيئة عليه،
وارتجاله
،وكثرة ما قال وتقييده بحدود الدين وترك معاييره القديمة، وكثرة ما حمل
عليه،
على أن له بعض القصائد الإسلامية الجيدة كقصيدة له في بدر ، وثانية في
فتح مكة ،
وثالثة في مفاخرة تميم"(19). وربط
الأستاذ عبد القادر القط بين قوة الشعر
و ضعفه وبين صلة الشاعر بالدعوة الإسلامية فجعل المقياس هو النظر في
علاقة
الشاعر بدين الإسلام وهل سخر إبداعه لخدمة هذه العقيدة، فاضطر بذلك إلى
مواجهة
تجربة جديدة تقتضي إجراء عدة تحويرات على أشكاله الفنية، واستيعابا كاملا
للمضامين والطروح التي قدمها الدين الجديد، وفي هذه الحالة فإن الشاعر
لابد أن
يصيبه كثير من الاهتزاز والارتباك، وينزل عن مستواه السابق "والحق أننا
لو
قارنا بين شعر هذه المرحلة والشعر الجاهلي لأدركنا دون عناء أن هناك بونا
شاسعا
بين الشعرين، من حيث الأصالة والمستوى، وأن الشعر في صدر الإسلام قد فقد
في معظمه
– وبخاصة الشعر السياسي- ما في الشعر الجاهلي من خيال حي واقتدار لغوي
والتصاق
بالطبيعة والمزاوجة بينها وبين مشاعر الإنسان، وأنه في كثير من وجوهه
أصبح أقرب
إلى النظم منه إلى الإبداع"
(20). وهذا
الأمر لا يظهر إلا في شعر من وهبوا
قوافيهم وموهبتهم وفنهم لخدمة الإسلام والدفاع عنه، وكذلك من اختاروا
معارضة هذا
الدين وجعلوا أنفسهم خصومه وأعداءه، أما من عداهم فإن حكم الباحث لا
يشملهم وهم
لا يدخلون في نطاق هذا الحصر، ذلك أن "هذه الظاهرة أوضح ما تكون في شعر
هؤلاء الشعراء الذين اتصلوا اتصالا وثيقا بالصراع بين المسلمين والمشركين
من أهل
مكة وغيرهم من العرب، سواء منهم من كان في جانب الإسلام أو من كان في
الجانب
الآخر"
(21). أما
الشعراء الذين لم يهتموا بظاهرة الإسلام،
او كانوا أقل مشاركة في الحرب الشعرية بين أتباع الدين الجديد، وبين
أتباع
الموروث الديني المنحرف، ظل قولهم جاليا لا يكاد يختلف عن النفس الشعري
الجاهلي
إلا اختلافا يسيرا.
ويلفت الدكتور عبد القادر القط الانتباه إلى
حقيقة مهمة يغفلها أغلب الدارسين، وهي أن هذا الضعف الذي يلاحظ على الشعر
الإسلامي ليس جديدا طارئا قبيل الإسلام، فقد بدأ في نهاية العصر السابق،
وبدت ملامحه
في الشعر قبيل الإسلام، والباحث يكرر ما قاله الدكتور محمد نجيب البهبيتي
ويفيد
من بحثه في هذا المجال...
المستشرقون: يمكن اعتبار الدراسات الاستشراقية للشعر
الإسلامي قناة تصل آراء القدماء من المفكرين والإسلاميين، وأحكام
الدارسين
المحدثين والمعاصرين، و الوقفة عند آراء هؤلاء المستشرقين أو عند بعضها
على
الأقل، تبدو لذلك ضرورية، لأن سبقهم إلى تراثنا التاريخي والأدبي جعلهم
يقفون
عليه قبل الدارسين و الباحثين العرب، يفسرونه تفسيرا أحاديا لم يظهر له
منافس في
الميدان و في مرحلة لم تكتمل فيها للفكر العربي بحكم عوامل متعددة
منها:التخلف،
الحكم العثماني ثم الاستعمار، مقومات البحث والدراسة، وما يتطلبه ذلك من
جمع
الموروث في التاريخ والأدب والتنقيب على المخطوطات التي كانت هي أساس
العمل
العلمي، وقد كانت هذه المادة الأولية بنسبة كبيرة جدا بين أيدي باحثين
أجانب من بلدان
أوروبية متعددة وقد وقعت هذه النصوص الكثيرة بين أيديهم بعد قرصنة
استعمارية
استحوذت على إنتاج الفكر العربي القديم سطرتها على الأرض والوطن العربي،
فكانت
بذلك حلقة واضحة في الحرب الصليبية التي سنتها الكنيسة والعالم المسيحي
على
العالم العربي والإسلامي، ولذلك لم يتمكن الباحث العربي من متابعة واعية
لتراث
العرب والمسلمين ومعرفة ما يقع له بتدقيق والمساهمة في الجمع والتفسير
والتحليل.
وينبغي أن ننظر إلى كل عملية مرت من هذه
القناة الاستشراقية نظرة متأنية، قد لا يغلب عليها الشك في المقدم
والمطروح من
عمل المستشرقين ولكنها نظرة علمية مقيدة بالأناة والصبر والتمحيص لفهم
هذه
الاجتهادات فهما واعيا مدركا للظاهر والباطن وأخذ ما لم يتجاوز الحقائق
التاريخية، ورفض ما كان القصد منه ضرب الإسلام بحجة الدفاع عنه والبحث في
تراثه،
أو جمع آثاره وترتيبها وتصنيفها وطبعها والانتهاء إلى مجموعة أحكام قيمة
حولها،
فإذا ظهر هذا الفصل الذي لا يرتبط بالشرط العلمي في عمل أحد المستشرقين
كان من
الواجب إظهار العيب العرقي أو الجنسي، أو مركب النقص الديني الذي يقوم
وراء هذه
الدراسات والتنبيه إلى القصد المبيت ضد المسلمين وتاريخهم، ثم العمل على
طرح بدائل
بتقديم دراسات جادة رصينة تقوم الإعوجاج وتصلح الفاسد وتكشف عن الخلل وفي
ذلك
يقول الأستاذ حسين مروة:" إن النواة الأولى لحركة الاستشراق بشكلها
الثقافي
ترتبط بعلاقة وثيقة مع حركة الاستشراق بشكلها السياسي العسكري التي كانت
الحملات
الصليبية نواتها الأولى كذلك"
(22). وهو موقف لا يدعو إلى إنكار جهد عدد كبير من
المستشرقين الذين صرفوا حياتهم وجهدهم المالي والعقلي لحفظ جانب من
موروثنا
الثقافي، بجمعه ورعايته مما جنبه الإندثار، ثم العمل على توزيع ونشر هذا
التراث
بما تيسر للبلاد الأوربية من وسائل الطبع والنشر بعد تحقيق هذه النصوص
العربية
القديمة، وترجمتها"برغم أن هذا العمل كان يشوبه الكثير من الأخطاء سواء
في
فهم النصوص أم في سوء الاختيار عن قصد وعن غير قصد"
(23) إن هذه الدعوة إلى الحذر الكبير قبل قبول
نتائج البحوث الاستشراقية التي اتخذت الأدب العربي مجالا لممارسة نشاطها
العلمي
لا تستند إلى مواجهة بعض ببعض، وتعصب ديني أو عرقي بمثيلتها، لأن مثل هذه
الردود، وأصناف هذه المجابهة النوعية، والمواقف التي تغرف من البئر
نفسها، لا
تفيد العلم في شيء، و لا تعمل على اقتراح البدائل الصحيحة التي تدفع
الانحراف
الفكري، بتبيين سقطات أصحابه وعثرات الواقفين وراءه، وقد أدرك عدد من
الباحثين
العرب هذا الميل عن الحق الذي تزخر به أعمال كثير من المستشرقين، حين
يتصدون إلى
النصوص العربية، ويحاولون تجربة قدراتهم في دراسة موروثنا الأدبي،
فيكشفون عن
ضعفهم الفاضح، وعجزهم الواضح لأن نسبة الإيجابية في هذه الدراسات لا
تعادل
نسبتها في جمع التراث ونشره " بل الصحيح القول إنها نسبة ضئيلة بالقياس
إلى
ما غمرها من سلبيات طاغية"
(23) ويعيد
الدكتور محمد نجيب البهبيتي هذا العجز عند
المستشرقين في فهم النصوص العربية
إلى قصورهم الكبير في فهم اللغة العربية، وإدراك قواعدها فهو عندما يتحدث
عن
"بلاشير" المستشرق الفرنسي وأقرانه يرى أنهم: " كانوا لا يحسنون
يوم لقيناهم في قاعات الدرس، بجامعتهم فهم قاعدة نحوية عربية او فقه
عبارة عربية
بل إدراك معناها القريب، فقد كانوا جيلا من أقزام المستشرقين حقا، وجد
نفسه
يتصدر معركة تاريخية لرد الاعتبار إلى ما بنى أسلافه من عمل خلطوا فيه
بين الحق
و الباطل حتى يسوقوا هذا مبررا بصدق ذلك
"(24). وعلى
ذلك فإن الاستشراق لا يعدو أن يكون قناعا ختاميا
لحركة التبشير التي تختفي وراء الدين، وهي في حقيقتها تعبير وثني يكشف عن
حقد
وحسد دفينين يأكلان أعماق أصحابها ويوقدان فيها نيران تحترق، إن فهم النص
العربي
سواء أكان شعرا أم نثرا يتطلب تذوقا موروثا، يكون هو الأصل في الدراسة
الأدبية
الصرفة، لهذا النص ، أما الإدراك العميق لأبعاد النص ومقاصده الخفية،
فيحتاج إلى
قدر وافر من ترسبات في أغوار النفس هي عصارة متبقية عن تطورات الكلمات
ودلالاتها
عبر حقب طويلة، يمر منها الجنس الذي أوجد هذه اللغة وخلقها ، وعمل على
تنميتها
وإغنائها متناسقة مع حركة نموه، ونمو حضارته.
ولا أريد بهذا جمع نصوص الباحثين في
تقييمهم لعمل المستشرقين ولا أن أحيط بجانب مما قيل في هذا المجال، فهو
كثير
يعرفه بصفة خاصة الذين يعملون في تحقيق النصوص العربية والمخطوطات ،
والذين وجد
عدد منهم أن الكثير من المخطوطات في البلاد العربية والإسلامية ، قد
سبقهم إليها
المستشرقون في عملية القرصنة العلمية لجانب من تراثنا الثقافي ، ولقد وجد
هؤلاء
أن تحقيقات المستشرقين تنوء بالأخطاء وتزخر بالهنات،قد أفسدتها التصرفات
التي
تتصل بهوى المحقق الفاسد المنحرف ، مما
يبعد هذه الأعمال من الأمانة العلمية التي ينبغي أن يتحلى بها المحقق،
لأن عمله
هو إجلاء النص وإخراجه إلى الناس كما
أراد صاحبه، ويقبله العلم الملتزم بحقوق الآخرين ، ويرضى عنه البحث
المسؤول عن
حماية ممتلكات الغير ، وأسوق مثالا واحدا من مئات يكشف عن ذلك ، محقق
الأصمعيات
في مقدمتها حيث يقول:"... وعني بتصحيحها المستشرق " وليم بن
الورد(اسمه الحقيقي وليم البروسي الألماني الجنسية) وليته لم يفعل
!!! فإن الظاهر أنه طبعها عن نسخة سقيمة لا يوثق بها ، وزادها تصرفه
وقلة تمرسه بلغة العرب سوءا إلى سوء بل أفسدها
إفسادا
!!! فإنه تصرف في ترتيبها وفي
مجموعها تصرفا لا يملكه ولا يدل على
حرصه على الأمانة العلمية التي اشتهر بها المستشرقون بالحق أو بالباطل"(25) هذه هي قناة الاستشراق التي تصلنا بفكرنا،
ويمر من خلالها تراثنا إلينا، لأن كياننا ينشطر وينفصل في أحد المنعطفات
التاريخية الكبرى في مسيرة التاريخ العربي والإسلامي، ويتدخل الآخر
بأدواته وفكره
وسبقه العلمي، لأن التحول التاريخي للشعوب والأمم مكنه من هذه الفرصة،
ولذلك فهو
يستغلها أكبر استغلال، ويمتصها الامتصاص كله، فاعلا فعله، بعيدا عن
الرقابة
والأمانة العلمية، في عدد كبير من أعماله، ليقدم لنا قسمنا الثاني
المفصول عنا
فصلا قسريا قهريا، بالشكل الذي يريد، راسما بريشته النصف الثاني من وجهنا
مغيرا
المسافات والألوان والظلال مموها سماتنا مشوها قسماتنا.ولهذا السبب نبهت
في
البداية إلى ضرورة التعامل بالحيطة والحذر الكاملين مع ما يقوله
المستشرقون حين
يتحدثون عن التاريخ و الأدب العربيين والإسلاميين وحين يخوضون مع
الخائضين في
إشكالية "الإسلام والشعر"، فهم يضربون هدفين بقدفة واحدة، يضربون
خطابنا الأدبي ومقوماتنا العقدية أملهم في ذلك هدم الدين والشعر، ولذلك
سعوا في
البداية إلى خلق خصومة بين الشعر والدين الإسلامي ، وألحوا على ذلك
إلحاحا
غريبا، وكأنهم يقصدون إلى ذلك قصد من يود أن يجعله سندا في إقامة حكم
عام، كان
هو المنطلق ليصبح هو المنتهى ولو بتحويل الأداة
العلمية المتخذة كوسيلة إجرائية
لإثبات أن هذه النتائج هي الخلاصة المركزة التي أسفر عنها البحث
العلمي
الدقيق النزيه الذي لم يحكم سوى منطق العقل ، ولم يقبل غير العلم كقولة
فصل
أخيرة.
وقد حاول بعض من تعرض لإشكالية
"الإسلام و الشعر" أن يصل مبتغاه وهو ضرب العقيدة والخطاب بإقامة عداء
مستحكم بين الدين والفن في الإسلام يقول "مرجليوت" مشككا في فهم
الآيات القرآنية التي تتناول الشعر " وينبغي ملاحظة التتمة التي تستني
الشعراء الصالحين من هذه التهمة، ولكن أسلوب القرآن يجعلها غير أكيدة
فيما إذا
كان هذا الاستثناء يخص الشعراء حقيقة"
(26)، وكيف يأتي
الاستثناء في الآيات مراعيا السياق
ولا يتعلق بما قلبه؟
! وماذايعني الاستثناء في
الآيات السابقة إذ لم يكن يعني الشعراء
الذين أرادهم الله بهذا التمييز وتحدث عنهم دون سواهم ؟ ويحاول
"مارجليوت" محاولة مكشوفة ثانية يعتمد فيها على طمس حقيقة معروفة بما
يبدو شبه الحق، ولكنه دس مقصود وذلك حين يعرض إلى اطلاع الرسول(ص) على
الشعر،
فمعرفته به وقدرته على التمييز بين الشعر وغير الشعر "إننا نجابه بلغز
محير، ذلك أن محمدا الذي لم يكن مطالعا على فن الشعر، كان عارفا بأن ما
يوحى
إليه ليس شعرا، في حين أن المكيين الذين في أكبر الظن يعرفون الشعر عندما
يسمعونه أو يرونه، كانوا يتفكرون في ذلك إننا كنا نتوقع العكس..."(27)إن محاولة الدس ظاهرة مقصودة تحوم حول شخص
الرسول(ص) وقدرته على فهم الشعر واستطاعته التمييز بين القول المنظوم،
الخاضع
للأوزان الشعرية العربية والقول المرسل المنثور أو الذي يقف وسطا بينهما،
كحال
النص القرآني أو تذوق الشعر الحلو والبيان العذب، والطرب لهما كما يطرب
الإنسان
للنغم الممتاز وإن لم يكن قادرا على تأليفه أو عزفه، والحكم على الشعر
الجيد،
والإحساس بالكلام المنظوم الرديء المتكلف، اعتمادا على الطبع الذي صقلته
الصلة
بهذه اللغة منذ الصغر. إن الرد على "مرجليوت " يأتي من
قراءة النصوص القرآنية التي تفرق بين الشعر والقرآن تفريقا واضحا، يستطيع
إدراكه
أي مستمع إلى القرآن يتلى من العرب الذين يتكلمون اللغة العربية، وإن
كانوا من
الأميين الذين لا يقرأون ولا يكتبون ، ولكنهم
يسمعون ويدركون و يعللون، وإعجاب الرسول (ص) أو استماعه لهم أمر
طبيعي
لأنه صلى الله عليه وسلم وإن لم يكن شاعرا فهو عربي يطرب للقول البليغ،
ويهتز
له،ويعجبه الشعر الجميل إعجاب أي عربي له، ويتأثر به
في كثير من الأحيان.فمما يروى أنه صلى
الله عليه وسلم حين استمع إلى قول قتيلة ابنة النصر بن الحارث بعد قتل
الرسول(ص)
أخاها في معركة بدر وهي ترثي أخاها اهتز لرثائها وتألم غاية الألم وقال:"
لو سمعت هذا الشعر قبل قتله ما قتلته"
(29).[/font:78